|
جريدة أخبار الأدب 4/1/2009 وسيم صلاح كلمة وداع
كان تاريخ أسرته الوطني يسكن دمه، وكلما لاح أمامه فرصة عمل هنا أو هناك كان يصيح بصوته الأجش الطيب، لا يا أحمد، ما أقدرش أنا بن صلاح حسين. آخر من تخيلت أن حياته ستنتهي فجأة وهو في السادسة والأربعين مفعما بالحيوية وحب الناس والضحك واستهتار الشجاعة والبسمة التي لا تفارقه تتودد إلي العالم وتقول لك : ثق في الحياة وعشها . كنت أوقظه في منتصف الليل بالتليفون وأقول له هناك مصري في مطار موسكو لايجد من يستقبله ، فيثب صوته ودرجة الحرارة تحت العشرين صائحا : يانهار أبيض . طبعا . لازم نروح له . لم يكن حتي يسأل من هذا المصري الذي ينبغي لأجله أن نقطع مسافة طويلة بسيارته اللادا في الزمهرير والصقيع قرب الفجر. يستقبله ويحمل حقائبه ويظل معه حتي يجد للقادم مسكنا وطعاما . كنا نقول له : فلان مريض . فلا يسمع الاسم . كان ضميره يلتقط فقط كلمة " مريض " ، فيهبط ويشتري فاكهة وزهورا ويتجه بها إلي أبعد مستشفي في موسكو ، وحين يعود يضحك قائلا : تبين أنني أعرفه ! وكان فارق السن بيني وبينه _ نحو خمسة عشر عاما _ يجعلني أشعر أنه يقع في منزلة ما بين صديقي وابني ، بعد أن جمعتنا سنوات طوال في موسكو، أنهي خلالها وسيم ماجستير صحافة، ثم ربطته بروسيا قصة حب مع " ناتاشا " قادته إلي الزواج ، ثم الانفصال ، ثم الحب من جديد والزواج مرة أخري . لكنه لم ينقطع عن مصر ، لا سنة ، ولاشهرا ، ولا لحظة ، كان يعيش هناك ومصر في ضميره ، في لفظه الكلام ، وفي نكاته ، وفي مشاريعه ، وفي اعتزازه بأن سمي علي اسم الضابط " وسيم خالد " الذي شارك في الكفاح ضد الانجليز قبل الثورة ، ثم أن والده هو صلاح حسين الذي استشهد في كمشيش دفاعا عن الفلاحين عام 1966 ، وخاله الطيار أشرف مقلد الذي استشهد في حرب الاستنزاف عام 1972 ، ووالدته السيدة المعروفة شاهندة مقلد التي كال لها القدر ثالث ضرباته المؤلمة بفقدانها وسيم . كان تاريخ أسرته الوطني يسكن دمه، وكلما لاحت أمامه فرصة عمل هنا أو هناك كان يصيح بصوته الأجش الطيب : لا يا أحمد ، ماأقدرش ، أنا ابن صلاح حسين ! . الشعور بتاريخ الكرامة الممتد في أسرته ، والكتب التي قرأها ، وغضبه في المناقشات السياسية ، لم يجفف عنده ينبوع الفرح بالحياة أو الضحك، فإذا جلست إليه أغرقك بالحكايات الصغيرة الممتعة. جاءني مرة يقول لي إنه تعرف إلي فتاة بالمصادفة عبر الهاتف ، واتفق معها علي لقاء تحت ساعة تتوسط ميدان معروف في موسكو ، ووصف لها نفسه لكي تتعرف إليه بأنه طويل وأشقر وله عينان زرقاوان ! . وحين ذهب إلي الموعد ، ظل يدور حولها ، وهو قصير أسمر أصلع ، وهي شاردة عنه ، حتي ناداها باسمها وقال لها هو غارق في الضحك : أنا الطويل الأشقر .. وسيم ! لكن هذا الشخص المحب للمرح والصخب كان يبدو إنسانا آخر تماما داخل مظاهرة في القاهرة تنديدا بعدوان إسرائيلي علي فلسطين، أو دفاعا عن الوحدة الوطنية في مواجهة الطائفية ، فكان وجهه يبدو مثل شعلة من غضب تتغذي من تاريخ تضحيات أسرته الطويل . جمعتنا سنوات طويلة أصبحت خلالها أسرته ووالدته شاهندة مقلد وأخته بسمة وأخوه ناجي أسرة ثانية لي ، أدخل بيتهم وقتما أشاء وأطلب الشاي والطعام كما أشاء. وكنت أرقبه ، وألحظ ذلك القلق الذي يعتريه وهو واقف في الريح بين شباكين : مصري ، وروسي . زوجته وطفلاه في موسكو ، وأهله هنا ، الريح التي وقف فيها الكثيرون من المغتربين حتي تجمد بعضهم في دواماتها ، وعصفت بقلوب البعض الآخر ، الريح التي لم تهدأ والتي ظلت تدور بلغتين ، وضحكتين ، ومدينتين ، وعالمين ، وهو واقف في عصفها ، يتأرجح يمينا ويسارا ، دون أن يفقد للحظة واحدة لا مرحه ، ولا نخوته ، ولا أمله في حياة أفضل وأجمل ، إلي أن عثرت عليه الشرطة الروسية قتيلا في ظروف غامضة داخل موسكو بعد أن اختفي من منزله وعنا لمدة نصف العام . هدأت الريح ، وغفت ، لترتوي الآن من دموع شاهندة ، ودموع كل الذين عرفوا وسيم صلاح حسين ، وأحبوه ، غفت الريح التي تمزقت بين عالمين ، غفت الريح المشاكسة والنكات والنخوة الإنسانية التي سكنت روحه . آخر من كنت أتصور أنني سأكتب عنه شيئا كهذا ، آخر من كنت أتخيل أنه سوف يسبقني إلي الرحيل، وأول الباقين في القلب والذاكرة .
|
يجب توجيه الأسئلة والمشكلات المتعلقة بموقع ويب
هذا إلى الحملة الإعلامية لمتابعة قضية مقتل وسيم صلاح حسين. . كافة الحقوق محفوظة. |